تهمة التآمر على الدولة.. شماعة قيس سعيد لتكريس المحاكمات السياسية

يجمع مراقبون على أن تهمة التآمر على الدولة باتت تمثل مجرد شماعة لرئيس الجمهورية قيس سعيد لتكريس المحاكمات السياسية والحكم الاستبدادي في تونس.
وتصدرت تهمة التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي، ومحاولات قلب نظام الحكم، والمحاكمات على خلفية النشاط والتنظّم السياسيين والرأي والعمل المدني والنقابي والإعلامي، العناوين الرئيسية لوسائل الإعلام المرئية والمكتوبة وصفحات التواصل الاجتماعي.
بل إنها تحولت إلى مادة يومية في النقاش العمومي، بعد أن غابت عشر سنوات أو يزيد عن قواميس السياسة ونشرات الأخبار، نتيجة التغيّرات العميقة التي أحدثتها الثورة التونسية بداية من 14 يناير/ كانون الثاني 2011، وبسبب الاعتقاد في رسوخ الديمقراطية التونسية وتحوّلها إلى استثناء في الوطن العربي.
طوال تلك الفترة (عشرية الثورة)، تخلّص الباحثون الأكاديميون وغير الأكاديميين في تونس من تابوهات السياسة وغطرسة الحكّام وأدواتهم الأمنية ومؤسّساتهم الرقابية التي غطّت رقابتها كل ذي حركة وفعل مؤثّر.
ولقد بدأت تغيب عن ذاكرتهم في أثناء فترة الانتقال الديمقراطي فظاعات “جمهورية الخوف” وبشاعة ممارساتها الأمنية والسياسية التي كانت تُلقي بظلالها على حياة الناس العاديين وعلى قادة الرأي في مجالات الحياة كافة.
وذلك بعد أن انتهت التحفّظات التي طبعت كتابات النخب الفكرية ومقالات الصحافيين وتدوينات المدوّنين وأعمال الدارسين ومجموعات التفكير وحلقات الخبرة والتأثير، من جرّاء ستّة عقود متتالية من الاستبداد، ومحاكمات الرأي والفكر.
وكان من ثمرات الحرّية السياسية والفكرية والأكاديمية والإعلامية والنقابية إنشاء محاكم العدالة الانتقالية، لمحاكمة من مارسوا التعذيب وانتهكوا الحُرمة البدنية لنساء ورجال الفكر والسياسة والنشطاء المدنيين والحقوقيين، وإنصاف الضحايا المنتمين إلى التيارات السياسية والأيديولوجية، حتى وإن كان ذلك الإنصاف مجرّد اعتراف رمزي.
كانت عشرية الثورة التونسية خاليةً من سواد المحاكمات السياسية الحالك والتآمر على أمن الدولة، إلا من قضية كيدية يتيمة، نسج خيوطها رئيس الحكومة الأسبق، يوسف الشاهد، في إطار تصفية الحسابات، ضدّ إطارين أمنيين بوزارة الداخلية ورجل أعمال سنة 2017.
وقد توقّف القضاء التونسي عند كيديّتها، وحُكم فيها بعدم سماع الدعوى بعد مظلمة استمرّت عدّة سنوات، إلى أن طفحت على السطح قضية التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي نهاية الأسبوع الثاني من شهر فبراير/ شباط 2023.
من غير المفيد التداول في أسماء “المعتقلين” في هذه القضية، جارية الأحداث، لعدم البتّ فيها قضائيا بعد، والحكم لصالح المتهمين أو ضدّهم، لكن من ضرورات البحث وشروط الكتابة السوسيو- سياسية، الوقوف عند الطبيعة السياسية للقضية والجهة التي حرّكت الدعوى ومدى جدّية الاتهامات والمرجعية القانونية المعتمدة.
ثبت من قائمة المعتقلين، ومن محاضر التحقيق لدى باحث البداية وقضاة التحقيق، المنشورة تباعا وعشوائيا بمواقع السوشيال ميديا وفي الصحف الورقية والإلكترونية، أن السلطة التنفيذية هي من حرّك الدعوى وتولّى ترتيب القضايا وإعطاء الإذن للنيابة العمومية التي لم تتحرّك من تلقاء نفسها كما هو متعارف عليه في حالات المخاطر الكبرى التي تتهدّد المجتمعات والدول.
كما ثبت أن المعتقلين من المدنيين المشتغلين علنا بالعمل السياسي أو بالشأن العام أو بـ”اللوبينغ”، وليسوا من العسكريين أو الأمنيين حاملي السلاح المباشرين أو المتقاعدين، وليس لهم روابط بتنظيمات عسكرية أو أمنية، بما في ذلك النقابات الأمنية وجمعيات المتقاعدين العسكريين، ولم يحجز لديهم، فيما هو مدوّن في محاضر التحقيق المنتشرة بالفضاء الافتراضي، ممسوكات أو محجوزات ذات طبيعة غير مدنية من أسلحة أو وسائل اتصال عسكرية أو خرائط ووثائق حسّاسة تحمل ختم “سري مطلق” أو تقارير أجهزة مخابرات مشهود لها محليا أو إقليميا ودوليا، أو وسائل تكنولوجية دقيقة تعتمد في التخابر، من غير الهواتف الذكية وما تحتويه من تطبيقات، وخصوصا “واتساب” وكمبيوترات المتهمين الشخصية، أو حتى أدوات مادّية بسيطة تستخدم في ممارسة العنف والجريمة بأنواعها، وفق شهادات لسان الدفاع.
وهم لا يخفون انتماءاتهم السياسية والأيديولوجية المختلفة والمتناقضة، منهم اليساري والليبرالي والإسلامي والحقوقي، ولا يجمعهم تنظيم حزبي واحد، سرّيا كان أو علنيا، أو جبهة سياسية واحدة أو ائتلافا سياسيا أو انتخابيا ماضيا أو حاضرا، وإن كان بعضهم يرأس حزبا سابقا أو حاليا (التيار الديمقراطي والحزب الجمهوري)، وآخرون يتخذون من جبهة الخلاص الوطني المعارضة (تحالف إسلامي – علماني) إطارا للقاء والنشاط المعلن.
كما أنهم لا يخفون رفضهم ما أقدم عليه الرئيس قيس سعيّد بداية من يوم 25 يوليو/ تموز 2021، ويصفونه بالانقلاب، ويعتمدون علنا كل الوسائل السياسية والجماهيرية النخبوية والشعبية والإعلامية والاتصالية المتاحة قانونيا للحيلولة دون استمراره.
ويعقدون الندوات الفكرية والسياسية والصحافية والاجتماعات تلو الاجتماعات الجماعية والثنائية العلنية وغير المعلنة لتحقيق أهدافهم السياسية، بما في ذلك لقاء أعضاء بعثات دبلوماسية، لم تستجلبهم الجهات القضائية التونسية المختصّة للتحقيق معهم وتوجيه التهم لهم مثل شركائهم التونسيين.
كما لم تُعلمهم سلطة الرئيس سعيّد بأنهم غير مرغوب فيهم أو عليهم مغادرة البلاد لتورّطهم في التدخّل في الشأن الوطني التونسي الداخلي، والتعامل مع أشخاص من ذوي الشبهة على خلفية “التآمر على أمن الدولة وتشكيل وفاق من أجل تغيير هيئة الدولة”، كما هو متعارف عليه في الأعراف الدبلوماسية، ما يضعف من التهم وينزع عنها كلّ مصداقية.
لا ينحدر المتهمون من أوساط اجتماعية وطبقية أو مهنية مشتركة، فمنهم الغني ومنهم متوسط الحال وربما الفقير، ومنهم المحامي والأستاذ الجامعي وصاحب مكتب دراسات والباحث والكاتب والدبلوماسي ورجل الأعمال والإعلامي.
ولا تجمع أغلبهم روابط ذاتية أو جهة واحدة، فهناك القادم من الوسط وأصيل الجنوب والمنحدر من جهة الساحل أو من الشمال التونسي، وليسوا أصدقاء دراسة جامعية أو رفاق نقابة أو جمعية ثقافية.
وتولّى بعضهم مناصب قيادية في الدولة ومؤسّساتها التنفيذية (الوزارات) والتشريعية (المجلس التأسيسي والبرلمان)، فاكتسبوا ثقافتها والتزموا ما تميله قوانينها من تحفّظ وحيادية، على قاعدة الناموس الديمقراطي التداولي.
يُحاكَم الموقوفون في قضية التآمر على أمن الدولة اعتمادا على منظومة قانونية عتيقة بالية، عمادها المجلّة الجزائية التي تعود صياغتها الأولى إلى 120 سنة خلت، أي إلى زمن حكم البايات والاستعمار الفرنسي في سنة 1903.
قدّست هذه المجلّة رئيس الجمهورية إلى درجة أن فصلها عدد 63 يشير إلى أنه “يعاقب بالإعدام مرتكب الاعتداء على حياة رئيس الدولة”، بينما لا تنفّذ عقوبة الإعدام إلا في حقّ من يقتل نفسا بشرية عمدا بالنسبة للمواطن العادي وليس مجرّد الاعتداء، أما الفصل عدد 67 المنقّح بالأمر المؤرّخ في 31 مايو/ أيار 1956.
فقد نصّ على أن “يعاقب بالسجن مدّة ثلاثة أعوام وبخطية قدرها مائتان وأربعون دينارا أو بإحدى العقوبتين فقط كل من يرتكب أمرا موحشا ضد رئيس الدولة”، من دون تعريف لهذا الأمر الموحش وحدوده.
ولم تقتصر الصرامة الشديدة للمجلة الجزائية على ما يمسّ رئيس الدولة، وإنما نصّت كذلك بأن “يعاقَب بالإعدام مرتكب الاعتداء المقصود منه تبديل هيئة الدولة أو حمل السكان على مهاجمة بعضهم بعضا بالسلاح وإثارة الهرج والقتل والسلب بالتراب التونسي”.
ومن المفارقات أن هذه المجلّة تضمنت الفصل 73 (جديد) المنقّح بالقانون عدد 23 لسنة 1989 الذي “يعاقب بالسجن بقية العمر وخطية قدرها مائتا ألف دينار من يقبل بمناسبة ثورة أن يقيم نفسه بدل الهيئات الحاكمة المكوّنة بمقتضى القوانين”، من دون أن يقع تغييره من المشرّع التونسي الذي كان ينتمي بعد سنة 2011 إلى سلطةٍ جاءت نتيجة ثورة (الثورة التونسية 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010 – 14 يناير/ كانون الثاني 2011).
ما يؤكّد أن النصوص المعتمدة في المحاكمة وضعت لزمن مغاير لأزمنة تونس الجديدة، ولم تُراجع منذ عشرات السنين، حتى عادت كعرجون قديم يبُس وجفّت عروقُه ولم يعد ينبض حياة، ولكن عصاه ما زالت تُستخدم في الضرب والعقاب.
ومع ذلك، هي لا تصلح في التربية والتنشئة على القيم السامية، بعد أن تبدّلت المفاهيم وتغيّر عمران الناس وأحوالهم، كما هو حال المجلّة الجزائية التونسية.
لم يقتصر الأمر على ما ورد في المجلّة الجزائية من أحكام عتيقة وبالية، وإنما استنجدت الجهات السياسية والأمنية والقضائية المتعهّدة بقضية التآمر على أمن الدولة بالقانون الأساسي عدد 26 لسنة 2015 المتعلّق بمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال، وبالقانون الأساسي عدد 9 لسنة 2019 المتمم له.
وهي نصوصٌ اقترحتها الحكومة زمن حكم الرئيس الباجي قائد السبسي، وأقرّها المشرّع التونسي في أوج العدوان الإرهابي الداعشي على تونس سنة 2015 (أحداث متحف باردو ونزل أمبريال مرحبا وحافلة الأمن الرئاسي، الإرهابية)، لتعويض القانون عدد 75 لسنة 2003 المتعلّق بدعم المجهود الدولي لمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال، المعترض عليه من النخب السياسية والحقوقية التونسية زمن حكم الرئيس زين العابدين بن علي، من دون وضع مفهوم دقيق للإرهاب وقواه الحقيقية وحدود التماسّ بينه وبين العمل السياسي المدني المشروع والمقاومتين المدنية والوطنية وخصوصا مقاومة الاستعمار والصهيونية.
وهنا يظهر خلط وغموض، يعكسان سذاجة “مشرّع ديمقراطي”، لم يأخذ في الحسبان إمكانية عودة الممارسات الاستبدادية وتلفيق التهم لأهل السياسة والمجتمع المدني المعارضين للسلطة الحاكمة، وتوضيح ذلك بطريقةٍ لا تقبل التأويل في الفصل 14 من القانون.
إلا أن ذلك الفصل لم يفرّق بين الجريمة العادية ونظيرتها الإرهابية، فعرّف مرتكب الجريمة الإرهابية كالتالي: هو كل من يرتكب فعلا على غرار قتل شخص، أو ارتكاب عنف حسب ما هو مقرّر بالفصلين 218 و319 من المجلة الجزائية، أو الإضرار بمقر بعثة دبلوماسية أو قنصلية أو منظمة دولية، وبالأمن الغذائي والبيئة بما يخلّ بتوازن المنظومات الغذائية والبيئية أو الموارد الطبيعية.
وكما كان الأمر تاريخيا، من خلال المحكمة العليا ومحكمة أمن الدولة، تحوّل القطب القضائي لمكافحة الإرهاب المحدَث بدائرة محكمة الاستئناف بتونس طبقا للفصل عدد 40 من قانون مكافحة الإرهاب وغسل الأموال، إلى محكمة استثنائية جديدة يحاكم فيها معارضون لحكم الرئيس قيس سعيّد، بتهم الإرهاب والعمل على تبديل هيئة الدولة ومحاولة اغتيال رئيس الجمهورية.
وذلك رغم طبيعة نشاطهم السياسي المدني والسلمي والقانوني (أحزاب حاصلة على تأشيرة العمل القانوني، وشاركت في مختلف المحطات السياسية والانتخابية للبلاد) المعلن والمتعارف عليه من السلطة الحاكمة، وغياب القرائن والأدلّة على صحة التهم الموجهة إليهم كما يصرّح بذلك أعضاء هيئات الدفاع.
وما يصاحب ذلك من سياسة صمت القبور التي يعتمدها الطرف الحكومي، إلا من أقوالٍ غير مسنودةٍ بقرائن معلنة من قيس سعيّد في أثناء زيارة أداها إلى وزارة الداخلية ليلة 14 فبراير/ شباط المنقضي، جاء فيها “هؤلاء الذين تمّ اعتقالهم إرهابيون، وقد أثبت التاريخ قبل أن تثبت المحاكم أنهم مجرمون ولا بدّ أن يحاسبوا بالقانون”.
وهو ما تم اعتبرته جهات حقوقية أحكاما نهائية باتّة من الرئيس، ستترجم قضائيا، بعد الأمر الموجّه إلى القضاة بأن “يتحمّلوا مسؤوليتهم التاريخية”، وفي هذا السلوك استنساخ لما كان يقوم به الرئيس الحبيب بورقيبة الذي كان يعطي التعليمات مباشرة للحكّام (القضاة)، “فهو يستقبل القاضي في الصباح ليطلعه ويزوّده بكلّ ما يهمّ الاستنطاق ويتلقى منه الأوامر”، وفق شهادة الباهي الأدغم، رفيق درب بورقيبة وأحد رجاله المقرّبين.
تهمة التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي ومحاكمات الرأي والفكر والسياسة، التي ظهرت في تونس الجديدة، بالتوازي مع عودة النظام الرئاسي، وكما هو الحال قبل سنة 2011.
الأمر الذي يدلّ على أن النظام الرئاسي والاستبداد في تونس صنوان، تمثّل الدليل القاطع على مغادرة تونس جغرافيا الدول التي تعتمد التداول السلمي على السلطة معيارا أساسيا يحكم الحياة العامّة، فكلّما غاب هذا التداول حلّت محله المحاكمات السياسية.
وقد ثبت في التجارب التاريخية أن متّهمي اليوم في قضايا السياسة والشأن العام هم أبطال الغد في ذاكرة الشعوب والمجتمعات.
ويبقي أن من يعتقد من القوى السياسية التونسية والشخصيات المشتغلة بقضايا الشأن العام، في الزمن الحاضر، أنه في منأى عن المحاكمات السياسية وتلفيق التهم الكيدية، والعيش على وقع لذّة محاكمة الخصوم السياسيين، فهو لم يفهم منطق الاستبداد وطبيعة الدولة التسلطية.