رئيسيسياسي

الأزمة السياسية في تونس: قراءة في مدار النزاع بين قيس سعيد ومعارضيه

تعيش تونس منذ 25 يوليو/ تموز 2021 على وقع أزمة سياسية حادة، مردها احتدام الصراع بين رئيس الجمهورية قيس سعيد وطيْف معتبر من معارضيه.

ويروج الإعلام التابع لقيس سعيد على تقديمه كمنقذ البلاد، والزعيم المخلص الذي انتظرته الجموع طويلا، ويعتبرونه وصيا على الناس، ومكلفا وحده بإدارة مشروع المساءلة والمحاسبة والإصلاح الشامل، ولا يروْن حرجا في توسيع صلاحياته واستئثاره بكل السلطات، وهيمنته على الشأن العام باعتباره المؤتمن على الثورة وعلى الدولة من وجهة نظرهم.

ولا يرى أنصار قيس سعيد حرجا في البطش بخصوم سياسيين في إطار ما يسميها رئيس الجمهورية “حرب التحرير” الثانية لتخليص البلاد من المتآمرين، والعملاء، والفاسدين.

في المقابل، ترى المعارضة التونسية أن من حقها أن تشكل قوة ضغط ونقد لسياسات الرئيس وحكومته، ولا تعتبر المحاسبة مشروعا فرديا، بل ترى إليها عملا مؤسسيا، يقتضي توفير جملة من الضمانات الحقوقية وتأمين المحاكمة العادلة للمشتبه بهم. وترى أن الإصلاح يجب أن يكون تشاركيا لا فعلا أحاديا.

وقد انتقل النزاع بين الطرفين على التدريج من المستوى البياني إلى تحشيد الشارع، ومن خطاب التنافي إلى مسارات التقاضي في أروقة المحاكم.

وبلغ الصراع بين الجانبين أوجه أخيرا من خلال إيقاف قياداتٍ في جبهة الخلاص الوطني ورموز المعارضة، وإحالتهم على القضاء بموجب قانون مكافحة الإرهاب، واتهامهم بالتآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي. وهو ما زاد في اشتداد القطيعة بين الرئيس وخصومه السياسيين.

ويمكن عمليا الوقوف عند ثلاث مسائل هي مدار النزاع بين قيس سعيد ومعارضيه، الأولى متصلة بمسألة الشرعية والمشروعية، والثانية متعلقة بالصراع على الشارع والامتداد الشعبي، والثالثة دائرة على تمثل مفهوم السلطة والنظام السياسي.

ويُعد النزاع على الشرعية والمشروعية من المسائل الخلافية التي تحكم بنية الصراع بين الرئيس ومناوئيه، فلئن تباينت مواقف المعارضة التونسية في البداية من حركة 25 يوليو(2021).

فمنهم مَن اعتبر التدابير الاستثنائية (تفعيل الفصل 80 من الدستور، حل الحكومة، تجميد البرلمان) التي أقدم عليها قيس سعيد قرارا صائبا وحركة تصحيحية (الحزب الدستوري، التيار الديمقراطي، التكتل من أجل العمل والحريات).

ومنهم مَن عدها خطوة غير دستورية، وإجهازا على التجربة الديمقراطية، وإيذانا بالحكم الفردي (حركة النهضة، ائتلاف الكرامة، حزب العمال)، فإن مواقف الأحزاب المذكورة على اختلافها آلت إلى التماثل بعد صدور الأمر الرئاسي عدد 117 (22 سبتمبر/ أيلول2021) الذي وسع سعيد بمقتضاه صلاحياته، وأمسك بموجبه بزمام السلطات التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، وأصبح يُدير البلاد بمراسيم لا تقبل النقض.

فقد اعتبرت جل مكونات المشهد الحزبي المعارض ما أقدم عليه الرئيس من مركزة للسلطة في شخصه انقلابا صريحا، وخروجا عن الشرعية الدستورية.

ولكن الرئيس تعلل بأنه يستمد شرعيته من كونه منتخبا من طيفٍ واسعٍ من التونسيين، وأنه يمثل الإرادة الشعبية، ويروم تخليص البلاد من هيمنة النخب السياسية التقليدية، فمضى في إصدار مراسيم أحادية، غير بمقتضاها هيئاتٍ سيادية.

فأغلق البرلمان المنتخب، وحل المجلس الأعلى للقضاء، وألغى الدستور التوافقي (2014)، ووضع دستورا على طريقته، ونقح القانون الانتخابي على هواه، وعدل تركيبة هيئة الانتخابات.

وهي خطواتٌ تغييريةٌ تفتقر إلى المشروعية من وجهة نظر المعارضة، لأنها لم تستند إلى أساس دستوري متين، ولم تصدُر عن سلطة تمثيلية برلمانية، ولم تكن نتيجة عملٍ تشاركي جماعي، مدني واسع، بل هي وليدة توجهات رئاسية أحادية.

ومن ثم، الجدل حول الشرعية والمشروعية عمق الفجوة بين الرئيس والمعارضة الحزبية والمدنية الوازنة في البلاد، وشكل عنصر توتر بين الطرفين.

وفي ظل انسداد منافذ الحوار بين قيس سعيد ومعارضيه، أصبح التنافس على استتباع الناس وتحشيد الشارع عنصرا جوهريا متحكما في تطورات النزاع بينهما.

فقد بات واضحا أن المعارضة، ممثلة في جبهة الخلاص الوطني، والأحزاب الديمقراطية الاجتماعية (التيار الديمقراطي، حزب العمال، القطب، التكتل من أجل العمل والحريات، الحزب الجمهوري)، والحزب الدستوري الحر نجحت نسبيا في ترويج اعتبار حكم الاستثناء مسارا انقلابيا.

ولم تقف عند هذا الحد، بل استغلت فشل المنظومة الحاكمة في إدارة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لتبين للناس أن مسار 25/07/2021 لم يُغير حياتهم نحو الأفضل، بل زاد في تأزيم الأوضاع، وذلك في ظل ارتفاع الأسعار، وندرة مواد استهلاكية أساسية، وتدهور المقدرة الشرائية لمعظم المواطنين، واتساع دوائر الفقر والبطالة، وانحسار الحريات العامة والخاصة.

وبناء عليه، استنزفت تجربة الحكم، بتعقيداتها المختلفة وتحدياتها المتعددة، شعبية الرئيس قيس سعيد. وتأكد ذلك بشكل لافت من خلال محدودية الإقبال الشعبي على المبادرات الرئاسية، من قبيل الاستشارة الإلكترونية (5.4%)، والاستفتاء على الدستور الجديد (27%)، والانتخابات التشريعية التي لم تتجاوز حدود المشاركة فيها حدود 11.4% من مجموع مَن يحق لهم التصويت.

ودل ذلك على انفضاض الناس من حول مسار 25/07/2021، وعلى نجاح المعارضة في تحشيد الشارع ضد التدابير الرئاسية.

وتجلى ذلك من خلال كثافة نسبة المقاطعين للانتخابات البرلمانية (89%)، وتزايد قدرة المعارضة على تنظيم مظاهراتٍ ووقفات احتجاجية حاشدة ضد سياسات النظام الحاكم.

ويبدو أن الرئيس سعيد استشعر تمدد الطيف المعارض، واتساع قاعدته الجماهيرية، وانتقاله من التشتت إلى الوحدة. لذلك عمد إلى الفعل في الشارع، ليتدارك تآكل شعبيته، وليحد من تمدد المعارضة.

وقد تبدى ذلك من خلال ملمحيْن بارزين: نزوله مرارا إلى شارع الحبيب بورقيبة في العاصمة، بما يحمله من رمزية مكثفة، وتأديته زيارات مفاجئة إلى أحياء شعبية ومناطق طرفية ليُخبر بأنه قريب من الناس، منفتح على مشاغلهم، مستعد للتفاعل مع مشكلاتهم على نحو يزيد من شعبيته ويعطف القلوب نحوه.

وفي جل زياراته، عمد إلى القدح في معارضيه، ونعتهم بالعمالة، والفساد، والخيانة، وعدهم “خلايا سرطانية” تنخر الدولة والمجتمع. وفي ذلك تأسيسٌ للذات عبر تقويض الآخر.

وتمثل الملمح الثاني في إعلان رئيس الجمهورية، أخيرا، انطلاق حملة محاسبة واسعة ضد من تحوم حولهم شبهات فسادٍ وتآمر على أمن الدولة، حملة طاولت سياسيين، وقضاة، ومحامين، ونقابيين، وإعلاميين، ورجال أعمال، وغيرهم.

ومعلوم أن المحاسبة مطلبٌ شعبي تشوفت إليه الجموع منذ سنة 2011، وإثارته، في هذا الوقت تحديدا، تساهم في تجميع الناس حول الرئيس الذي يريد أن يظهر في صورة الرجل القوي، القادر على مكافحة لوبيات الفساد، والاحتكار، وتحويل المحاسبة من شعارٍ إلى ممارسة.

لكن اللافت أن عددا معتبرا من الموقوفين هم من رموز المعارضة عموما وقيادات جبهة الخلاص خصوصا. وفي غياب بياناتٍ رسمية من أجهزة الدولة المسؤولة حول تفاصيل التهم الموجهة إليهم، أفاد مُحاموهم بأن من الصعب الوصل بين جل المظنون فيهم وتهم الفساد، والإرهاب، والاحتكار، والتآمر على أمن الدولة لمحدودية المؤيدات أو انعدامها على حد قولهم.

والمرجح، بحسب مراقبين، أن الغرض من استهداف معارضين للنظام بتهم ثقيلة تشتيت جهودهم، وتعطيل وحدتهم، وإرباك مساعيهم لتكوين كتلة مدنية مضادة للسلطة الحاكمة، والقصد تحويل الأحزاب المعارضة الوازنة من قوى ضغط على النظام القائم إلى مجرد ملفاتٍ قضائيةٍ على نحوٍ يستنزف شعبيتها.

على صعيد آخر، طبيعة النظام السياسي الذي يفترض أن يحكم تونس هي مدار خلاف حاد بين الرئيس ومعارضيه، فقيس سعيد ميالٌ إلى استعادة الدور الفاعل لرئاسة الجمهورية في إدارة مشروع الحكم.

ويسعى إلى إحياء نظام الحكم الرئاسي المطلق الذي يكون فيه رئيس الجمهورية صاحب القول الفصل في إدارة البلد، ويتمتع بصلاحياتٍ واسعة، وتقع تحت نفوذه بقية الأجهزة التنفيذية، والتشريعية، والقضائية التي لا يعتبرها سعيد سلطات مستقلة بذاتها، بل مجرد وظائف في بنية الدولة.

والناظر في دستور 2022 الذي وضعه قيس سعيد، يتبين أن رئيس الجمهورية هو من يعين الحكومة، وهو مَن يُعفي أعضاءها، وفي مقدوره حل مجلس نواب الشعب، ولا يخضع للمساءلة أو المحاسبة.

في المقابل، يميل أغلب الطيف المعارض إلى اعتماد نظام رئاسي معدل أو نظام برلماني يضمن التوازن بين السلطات واستقلاليتها، ويسمح للأحزاب المعارضة ومكونات المجتمع المدني بأن تمارس دورها الرقابي على أداء السلطة الحاكمة، وأن تشارك في صناعة القرار وإدارة الشأن العام، وهو تصور يؤسس لحكم تشاركي /تعددي، يتعارض مع مقولة مركزة السلطة بيد الفرد.

ختاما، كان بالإمكان فك مغالق الأزمة السياسية في تونس بتحكيم العقل، والجلوس إلى طاولة الحوار، لكن استحكام التنافي بين الرئيس وخصومه، وادعاء كل طرفٍ امتلاك الحقيقة زاد من تأزيم الأمور.

ومعلوم أن تغليب الخيار الأمني/ القضائي والنهج الردعي في التعاطي مع مسائل خلافية سياسية يؤدي إلى تغذية أسباب التوتر والاستقطاب الثنائي، ويُفضي إلى تسييج النقاش العام بشأن السياسات الحكومية، وتقييد الحريات العامة والخاصة واستعادة ملامح الدولة الشمولية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق