شواهد على تضييق متزايد على حرية الصحافة في تونس

تشهد تونس تضييقا متزايدا على حرية الصحافة في ظل تصاعد استهداف الصحفيين بالاحتجاز والاعتقال والأحكام القضائية تكريسا لواقع الاستبداد والقمع في عهد رئيس الجمهورية قيس سعيد.
والتضييق على حرية الصحافة بدأت ملامحه تتضح من خلال تعرض عدد من الصحافيين للمحاكمات العسكرية، كما اعتقال البعض منهم، وآخرهم غسان بن خليفة الثلاثاء.
ويقبع الصحافي صالح عطية في السجن بعد الحكم عليه بثلاثة أشهر سجناً، بسبب مشاركته في برنامج إخباري عبر قناة الجزيرة الإخبارية، اتهم فيه بالإساءة إلى الجيش التونسي.
ويباشر القضاء التونسي النظر في قضية “إنستالينغو”، وهي شركة مختصة في إنتاج المحتوى الرقمي، اتهم فيها عدد من المدونين والصحافيين بالضلوع في التآمر على أمن الدولة التونسية وأودعوا السجن، وهم المدوّن سليم الجبالي صاحب صفحة “وزير ضغط الدم والسكر”، والصحافي لطفي الحيدوري، والصحافية شذى الحاج مبارك.
كما توثق التقارير الشهرية للنقابة الوطنية للصحافيين التونسيين تصاعداً غير مسبوق في الاعتداءات على العاملين في القطاع.
ويبدو أن الإعلام سيواصل تصدر الملفات المطروحة على الحكومة التونسية في السنة السياسية الجديدة، إذ لا تزال الضبابية تخيّم عليه.
وذلك وسط تصاعد المخاوف من تراجع الحريات الصحافية وغياب آليات تعديل واضحة للمشهد الإعلامي، وتحديداً بعد التخلي عن الصفة الدستورية للهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري (الهايكا)، في دستور البلاد الجديد.
أولى الإشكاليات تتعلق بكيفية إدارة ملف الإعلام نفسها، إذ أكد نقيب الصحافيين التونسيين، محمد ياسين الجلاصي، أن الغموض لا يزال يلفها، فلا وجود لمَن يخاطب الصحافيين، سواء من قبل رئاسة الجمهورية التونسية أو الحكومة.
فالرئيس قيس سعيّد لم يعيّن أي شخص ليخلف رشيدة النيفر، بعد استقالتها من منصبها مستشارة أولى لدى رئيس الجمهورية مكلفة بشؤون الإعلام والاتصال، في 23 أكتوبر/تشرين الأول عام 2020.
أما رئيسة الحكومة نجلاء بودن فاختارت في مرحلة أولى تعيين آمال العدواني مستشارة للاتصال في 8 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2021، ثم أعفيت من مهامها بعد 24 ساعة فقط.
وتحوّل ملف الإعلام إلى نقطة صراع، إذ تولت الوزيرة الكاتبة العامة للحكومة، سارة رجب، الشق الإداري، في حين سُلمت إلى وزير الشؤون الاجتماعية، مالك الزاهي، إدارة الملف سياسياً.
هذا الإجراء كشف عن عدم فعاليته خلال الإضراب الذي خاضه الصحافيون في قسم الأخبار في التلفزيون الرسمي التونسي خلال يناير/كانون الثاني الماضي، كما في المفاوضات مع الأطراف النقابية حول الملفات المتعلقة بقطاع الإعلام.
إلا أن مصادر عدة تؤكد أن الملف من الصلاحيات المباشرة للرئيس التونسي، وأنه بدأ يفكر في إجراء عملية تقييم شامل وتغييرات كبرى فيه.
وذلك كما حصل في ملفات أخرى تتعلق بالقضاء، وهي تغييرات ستمس أساساً الإعلام العمومي (الرسمي)، أي مؤسسات الإذاعة التونسية (12 محطة إذاعية) والتلفزة التونسية (3 قنوات) ووكالة تونس أفريقيا للأنباء (وات).
ووفقاً للمصادر نفسها، يتجه التفكير إلى خيارين، أولهما دمج الإذاعة والتلفزة التونسية في مؤسسة واحدة بعد فصلهما سنة 2007، أو إعادة تنظيمهما إدارياً بتسمية مسؤول عنهما مع محافظة كل مؤسسة على استقلاليتها.
والملف الثاني يتعلق بآليات تنظيم المشهد الإعلامي في تونس وتسييرها، فهذا الدور كانت منوطة به الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري (الهايكا)، لامتلاكها الولاية القانونية على القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية الرسمية والخاصة.
لكن هذه الهيئة يسود الغموض مصيرها، بعد حذفها من الهيئات الدستورية في دستور تونس الجديد الذي دخل حيز العمل نهاية أغسطس/آب الماضي، وهي خطوة رأى فيها بعض المتابعين للشأن الإعلامي إعلاناً ضمنياً عن نهايتها والتفكير في استبدالها بهيئة أخرى.
لكن رئيس “الهايكا”، النوري اللجمي، أوضح أن “الهيئة فقدت صفتها الدستورية، لكنها ستحافظ على وجودها كهيئة تعديلية، رغم أن تمتعها بصفة هيئة دستورية كان يمنحها حصانة للقيام بدورها التعديلي على أكمل وجه”.
وأضاف اللجمي أن “الأهم من المحافظة على وجود الهيئة هو المحافظة على استقلاليتها حتى لا تتحول إلى أداة من أدوات الدولة”.
الأدوار التنظيمية في الإعلام يقوم بها في الصحافة الورقية والإلكترونية مجلس الصحافة الذي يعاني أصلاً من صعوبات لوجستية كثيرة (غياب مقر أو ميزانية من الحكومة)، ويتلقى التمويل حالياً من جمعيات المجتمع المدني ويتخذ من مبنى النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين مقراً مؤقتاً له.
ويرجح بعض المطلعين على الشأن الإعلامي أيضاً التخلي عن هذا المجلس، واستبداله و”الهايكا” بمجلس أعلى للصحافة يعدّه المقربون من سعيّد.
الملف الثالث الذي تصفه النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين بـ”الحارق” يتعلق بالتراجع المخيف للحريات الصحافية في البلاد.
إذ تراجع تصنيف تونس في مؤشر حرية الصحافة الذي تصدره منظمة مراسلون بلا حدود هذا العام من المرتبة 73 إلى المرتبة 94، من أصل 180 دولة حول العالم. هذا التراجع وصفه نقيب الصحافيين التونسيين، بـ”انتكاسة كبرى لحرية الصحافة في تونس تتطلب الحذر واليقظة من كل الأطراف الفاعلة في القطاع الإعلامي، من صحافيين ونقابات وجمعيات ومنظمات تدافع عن الحريات”.
وملف الإعلام التونسي وتشعباته تضاف إليه صعوبات مالية كبرى تعيشها المؤسسات الإعلامية نتيجة الأزمة الاقتصادية في البلاد التي انعكست تراجعاً في العائدات المالية من الإعلانات التجارية.