أخبار تونسرئيسي

الاتحاد العام التونسي للشغل.. من تأييد قيس سعيد إلى الصدام معه

شدد الاتحاد العام التونسي للشغل على وجوبية ترافق التدابير الاستثنائية التي أقرها الرئيس “قيس سعيد” في 25 يوليو/تموز بجملة من الضمانات الدستورية والحقوقية.

وبحسب مركز الفكر الاستراتيجي للدراسات، فقد لخص الاتحاد العام للشغل مطالبه في تحديد التدابير ومدتها إلى جانب احترام الحقوق والحريات والاحتكام إلى الآليات الديمقراطية في صنع القرار والتغيير السياسي.

كما أكد ضرورة عدم إرجاع البرلمان التونسي للعمل بسبب تورطه في تعطيل الدولة وانتشار الفساد. كذلك، اقترحت المنظمة العمالية ضرورة الالتجاء لمبدأ التشاركية في إعداد خارطة الطريق المتعلقة بإدارة الدولة ما بعد 25 يوليو/تموز.

لذا، فقد رحبت المنظمة الشغيلة بإجراءات الرئيس “قيس سعيد”، معتبرة إياها خطوة ضرورية للقطع مع منظومة الفساد وهيمنة حزب النهضة على دواليب الدولة، التي لطالما عبرت عن رفضها لمرجعيته الدينية وسياساته منذ 2011.

ومع هذا فقد عبر الأمين العام “نور الدين الطبوبي” بعد أسابيع عن قلق المنظمة الشغيلة من غياب استراتيجية التغيير، حيث قال: “نحن نتعامل مع ما بعد 25 جويلية بطريقة نقدية إيجابية، من أجل ما تبقى تونس ديمقراطية ذات مؤسسات، من خلال التعجيل في إطار التشاركية بين قانون انتخابي جديد، ثم الذهاب إلى انتخابات تشريعية مبكرة”.

في الواقع، خلال أسابيع ما بعد الإعلان، ساد التوتر والتصريحات المتبادلة بين الرئيس والأمين العام للمنظمة العمالية إلى حد المقاطعة.

فقد طالبت المنظمة العمالية رئاسة الجمهورية بضرورة تسريع الإجراءات وتقديم خارطة طريق والتشارك في اختيار رئيس الحكومة الجديد، وقد تم استنكار انفراد رئيس الجمهورية بالسلطة بعد إصدار الأمر الرئاسي عدد “117”، الذي يوقف العمل بالدستور وإجراء إصلاحات دون تشاور مع المنظمات أو الأحزاب السياسية.

وقد أدى الرضا الضمني للقوى المدنية بغياب التشاور، أو انفتاح رئيس الجمهورية على القوى الحزبية، إلى تعزيز استحالة توظيف آلية التوافق في المرحلة الراهنة.

ويتعين الذكر أن الفارق الأساسي بين سياقات الأزمة السياسية لعام 2013 والجمود السياسي الراهن، أنَّ الأجهزة الأمنية والجيش الوطني يلتزمان بتنفيذ قرارات ومراسيم الرئاسة.

ففي اليوم الموالي للإجراءات الاستثنائية، سيطرت القوات الأمنية على المجلس البرلماني مانعة عدد من نواب الشعب ورئيس البرلمان من الدخول، ومن شروط الالتجاء إلى التوافق توازن القوى بين الخصوم، وهذا ما يفتقده المشهد الراهن.

ففي السياق الحالي، يستند الرئيس “قيس سعيد” إلى شرعية انتخابية شعبية، واحتكار تفسير وحماية الدستور، إلى جانب تدعيم الأجهزة الأمنية لقراراته، وقد تدعم التوجه نحو إقصاء الأحزاب السياسية من الحكم من خلال مرسوم “117” الذي يؤسس فعليًا لمرحلة جديدة لا تقطع فقط مع المرحلة الانتقالية ومرحلة ترسيخ الديمقراطية “الفاشلة” فحسب، بل تعيدنا إلى الأسابيع الأولى ما بعد سقوط نظام “بن علي”.

يبدو أن الشرعية الانتخابية والسياسية للرئيس “قيس سعيد” قد أضعفت تحركات المنظمة الشغيلة، حيث أصدرت الحكومة التونسية مؤخرًا المنشور عدد “20” المتعلق بوقف التفاوض الاجتماعي الذي اكتفى الاتحاد باعتباره منافيًا للحق النقابي.

إنَّ هذا التوجه الرئاسي لتهميش المنظمات الوطنية، بالأساس الاتحاد العام التونسي للشغل، تأكد منذ بدايات العمل بالإجراءات الاستثنائية، حيث اكتفى بأخذ تزكيتها وامتصاص مخاوفها ودهشتها، دون تقديم تنازلات أو مساعي جادة لمشاركتها القرار.

وهكذا، يواجه الاتحاد العام التونسي للشغل بالفعل خيارًا صارخًا، إما الحفاظ على روابطه التعاونية مع الحكام الحاليين، حتى أثناء سعيهم لفرض التقشف وتحرير الاقتصاد، أو تبني موقف أكثر تشددًا لعرقلة هذه التحركات، وحماية الوظائف وأجور العمال في ظل التضخم وتدهور القدرة الشرائية.

وفي الواقع يهيمن الاتحاد العام التونسي للشغل على القطاع العام، ولكن لاتزال مستويات انخراط عمال القطاع الخاص منقوصة ومنعدمة تقريبًا في القطاع الموازي /غير الرسمي.

مما يعزز الاعتقاد بضعف السلطة النقابية، وضياع مطالب الشريحة العمالية، أمام هيمنة السلطة الحاكمة ومنظمة الأعراف (رؤساء العمل).

في هذا الصدد، فإنَّ تجديد الحوار الاجتماعي، وفتح التفاوض مع السلطة وباقي المنظمات المنخرطة في سوق العمل، أصبحت مهمة صعبة أمام الاتحاد العام التونسي للشغل؛ لعدم تأقلمه مع المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية بتونس.

إنَّ انغماس القيادة المركزية للمنظمة العمالية في الشأن السياسي، خلال هذه العشرية الأخيرة، أثر على نجاعة تدخلها، أو اهتمامها بأوضاع العمال ومشاكلهم؛ بسبب غياب التواصل المؤسسي.

كذلك، يتم توجيه الانتقادات للمنظمة العمالية لتعاملها مع الفروع النقابية الأكثر تأثيرًا وكثافة، بالتوازي مع تهميشها لبعض القطاعات أو العمال الآخرين.

إضافة إلى أنَّ المنظمة العمالية لا تدافع عن العاملين في مجال العمل الحر، الذين لا يتمتع أغلبهم بالرعاية الصحية أو التأمين الاجتماعي.

وهنا، يبدو الدفاع عن العدالة الاجتماعية والعمل اللائق انتقائيًا ومختزلًا في الأشخاص المتمتعين بصفة موظف أو عون في القطاع العام، وبعض مؤسسات القطاع الخاص المنخرطة في الاتحاد العام التونسي للشغل.

إنَّ الاتحاد العام التونسي للشغل يمثل منظمة مدنية تراوح بين العمل النقابي والفعل السياسي؛ حيث لا يمنع النظام الداخلي من تولي أحد قياداتها أو منخرطيها النقابيين مناصب سياسية، أو الالتحاق بحزب سياسي أو حقوقي أو جمعياتي.

وهذا ما يجعل التوجهات النقابية مؤثرة ومنتشرة داخل الأحزاب السياسية، فهي متغلغلة ضمن فكر اليسار التونسي.

وتظهر دائمًا انتقادات من طرف الخصوم السياسيين للنقابة ولليسار التونسي، من خلال اتهامهم بالتحالف والتحزب مثلما حصل في انتخابات 2014.

تتعرض المنظمة العمالية إلى انتقادات واسعة، من طرف النقابيات المنتميات إليها ومن باقي الجمعيات النسوية، بسبب التهميش للمرأة من الأدوار القيادية في المكاتب المركزية أو المحلية.

وفي الواقع، لا يتم انتخاب النقابيات في عضوية اللجنة التنفيذية للمنظمة العمالية، مما استدعى وضع خطط ومشروع لتعزيز المساواة بين الجنسين منذ 2016.

تساهم النقابيات في التعبئة للمشاريع والمفاوضات الجماعية إلى جانب إنجاحها والتزامها بالإضرابات والتحركات الاحتجاجية، إلا أنها تعاني التهميش على المسؤوليات القيادية أو التفاوضية مع السلطة ومنظمة أصحاب العمل، كذلك تتحرك النساء النقابيات بفعالية كبرى في المسيرات والإضرابات والاعتصامات التي تنظمها المنظمة العمالية ومختلف فروعها.

وتتبلور الانتقادات حول استنكار تهميش النقابيات من المناصب القيادية داخل المنظمة العمالية، على الرغم من مناداة هذه الأخيرة بالحفاظ على مكتسبات المرأة والنموذج التحديثي.

يضاف إلى ذلك، لا تحظى النساء العاملات بإجراءات مخصصة أو لوائح نقابية لحمايتهن من التحرش أو الاستغلال أو الوصول إلى المناصب القيادية.

لذا تتميز مشاركة النقابيات باختزالها غالبًا في أنشطة التعبئة الاجتماعية لصالح الحقوق العمالية أو حقوق المرأة أو قضايا الوحدة الوطنية، مثلما حصل خلال أسابيع ثورة 2011 وما بعدها.

لازال الاتحاد العام التونسي للشغل يناهض ويرفض توصيات وشروط البنك الدولي لتقليص عدد الموظفين والعمال في القطاع العام، إلى جانب التوقف عن الانتدابات، وتقليص كتلة الأجور.

حيث ترى المنظمة العمالية أنَّ مختلف شروط البنك الدولي، أو مساعي التقشف للإصلاح الاقتصادي في تونس يهدد منخرطيها، كما تعارض المنظمة العمالية بشدة مساعي الخصخصة لعدد من المؤسسات العمومية التي تعيش الإفلاس وترهق كاهل الدولة بالديون.

كما لم تحسم الخطوات اللازمة للإصلاح الاقتصادي بسبب تعطل المفاوضات الجماعية مع الحكومة، حيث تطغى هذه المشاغل والتجاذبات مع الحكومة حول السياسات الاقتصادية على اهتمام المنظمة العمالية، كما تزيد من المخاوف اليومية بشأن الأمن الوظيفي والأجور والمزايا الاجتماعية.

ومع ذلك، فإنَّ لها تأثيرًا تراكميًا أكبر على استقرار ظروف المهنية والعمل النقابي.

ساهمت التحولات السياسية ما بعد 2011 في تثبيت معطى التعددية النقابية، حيث تم اتهام حزب حركة النهضة بتشجيع تأسيس نقابات عمالية جديدة وموازية، داخل ذات القطاعات التي لطالما هيمن عليها الاتحاد العام التونسي للشغل، مثل قطاع النقل والتعليم العالي.

فقد تأسست الجامعة العامة التونسية للشغل، واتحاد عمال تونس، والمنظمة التونسية للشغل، ورابطة عمال  تونس، كنقابات جديدة بعد عن انشق ما يقارب 70 ألف منخرط عن الاتحاد العام التونسي للشغل.

وقد كشفت هذه التعددية النقابية عن عدم رضا لعدد من القيادات السابقة أو المنخرطين، عن أداء المنظمة الشغيلة، وتحفظاتهم على مواقفها وطرق تفاوضها مع السلطة الحاكمة.

كذلك أظهرت التعددية النقابية قوة الانتماء السياسي، وانقسام العمل النقابي بين الولاء إلى اليسار التونسي أو الإسلاميين ما بعد 2011، كما عبر عن رغبة بعض المهنيين والموظفين القطاعيين في الاستقلالية النقابية عن الاتحاد العام للشغل؛ دفاعًا عن حقوقهم ومطالبهم التي لطالما تم تهميشها.

وبقدر ما انعكست التعددية النقابية على تقليص تعبئة الموارد للمنظمة الشغيلة، بقدر ما أثبتت تجذر بنى الهيمنة لاتحاد الشغل داخل دوائر صناعة القرار، التي ترفض غالبًا التفاوض أو الرضوخ لمساومات واستراتيجيات الضغط التي تتبعها النقابات الجديدة.

بمعنى أكثر وضوحًا، ساهمت المشاركة السياسية للاتحاد العام للشغل في المسار الانتقالي الديمقراطي في تونس ثم تحالفاتها مع السلطة ما بعد 2014 إلى ترسيخ هيمنتها على العمل النقابي، وإضعاف باقي النقابات الجديدة التي استهجنت تأسيسها منذ البداية.

فحسب الأمين العام السابق لاتحاد الشغل، فإنَّ التعددية النقابية “تشتت العمال ووحدة الصف النقابي”، لكن رأيه تغير فيما بعد مؤكدًا أنَّ المنظمة الشغيلة لا تناهضها التعددية النقابية “إذا كانت نابعة من إرادة العمال”.

وقد عرفت المنظمة العمالية الكثير من مظاهر الانشقاق الداخلي؛ بسبب ما يٌعرف بمعضلة الفصل 20، حيث تنقسم قياداتها بين مؤيدين لتنقيح وتمديد الدورة الانتخابية لأعضاء المكتب التنفيذي وآخرين رافضين ومطالبين بترسيخ التداول الديمقراطي على القيادة النقابية.

وتتمحور إشكالية الفصل 20 في مساعي التمديد للأمين العام الحالي “نور الدين الطبوبي” التي صادق عليها المجلس الوطني التابع لاتحاد الشغل في 26 أغسطس/آب 2020.

فقد تمت الدعوة إلى مؤتمر غير انتخابي بتاريخ 26 و27 أكتوبر/تشرين الأول 2020 بموافقة 96% من أعضاء المجلس الوطني، الذي يبلغ عددهم 560 عضوًا، يتمثل الهدف الرئيسي من المؤتمر الاستثنائي في تنقيح الفصل 20 من القانون الأساسي للمنظمة العمالية، الذي في الأصل لا يسمح بترشح أعضاء المكتب التنفيذي لأكثر من دورتين (5 سنوات قابلة للتجديد)، لذا فإن مساعي التنقيح تهدف إلى التمديد لأعضاء المكتب التنفيذي للمكتب الحالي.

وهكذا انقسم الاتحاد وزادت حدة التوترات بين من يُلقبون بالانقلابيين المؤيدين للتنقيح، والمعارضة النقابية المناهضة للتنقيح، التي لازالت تتواصل إلى حد الآن.[.

وقد أسست المعارضة النقابية ما يُعرف بـ “تنسيقية القوى النقابية الديمقراطية” بقيادة الكاتب العام للجامعة العامة للتعليم الثانوي “لسعد اليعقوبي”.

ونظمت التنسيقية مجموعة من الوقفات الاحتجاجية في ساحة محمد علي “مقر الاتحاد بالعاصمة” تعبيرًا عن مناهضتها وتنديدها بمساعي تنقيح الفصل 20، التي حصل فعليًا في صائفة 2021.

وهكذا فإن المؤتمر الذي انعقد في 17 و18 و19 فبراير/شباط 2022 كان حاسمًا، حيث تم انتخاب “نور الدين الطبوبي” مجددًا لمنصب الأمانة العامة، بعد صدور الحكم الاستفتائي للمحكمة الابتدائية، القاضي بشرعية مخرجات المؤتمر الاستثنائي الأخير، فقد قضت المحكمة الابتدائية ببطلان القرار الصادر عن المجلس الوطني للمنظمة الشغلية، المنعقد بتاريخ 24 إلى 26 أغسطس/آب 2020 بعقد مؤتمر استثنائي وغير انتخابي في 8 و9 يوليو/تموز 2021، الذي بمقتضاه حصلت المصادقة على تنقيح الفصل 20.

خلال هذه العشرية الأخيرة، بدا واضحًا أن للاتحاد العام التونسي للشغل عداوات مع بعض الفاعلين السياسيين في الداخل التونسي، كما أظهرت هذه العداوات تسريبات واتهامات صريحة وقضايا في المحاكم التونسية، يتم من خلالها إدانة تجاوزات المنظمة العمالية واستنكار تواطؤ وسكوت السلطة الحاكمة أمام هذا النفوذ المتنامي.

فعلى سبيل المثال، أكد “عماد الدايمي” أحد قيادات حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، في ندوة صحفية أن المنظمة الشغيلة متورطة في عدم استخلاص ديونها لصالح الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، في إطار علاقات المحسوبية والولاء للنظام الحاكم السابق والحالي.

وتمحورت الاتهامات حول تواطؤ المؤسسات الرئاسية للدولة على إعطاء امتيازات غير مستحقة للمنظمة الشغيلة والتغاضي عن ديونها.

في الحقيقة، يحظى الاتحاد العام التونسي للشغل بهذا الامتياز بمقتضى أمر وزاري في 1992 ينص صراحة على تجميد إجراءات الاستخلاص المالي تجاه كل الصناديق الوطنية، لكن المعارضين يشككون في الصفة القانونية لهذه المذكرة الوزارية، مثلما يستنكرون استمرارية العمل بها وشرعيتها.

لذا فإنَّ اتحاد الشغل يواجه دومًا انتقادات بافتقاد الشفافية، واستغلال نفوذه الميداني، وقربه من دوائر صنع القرار؛ للتهرب من واجباته المالية تجاه الدولة.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق